الأربعاء

أعرف أنى لا أعرف

ورحلت يوما للمدينة
فى ركب قافلة ممزقة حزينة
كنا أهلنا فوق أمى آيتين من الكتاب و كومتين من التراب
و قالبى طوب و طبعا ما تيسر من الدموع
يتجول فى الشوارع. يدقق فى البشر. يسمع صراخهم و همساتهم. يشعر أنه انتقل من عالم الوعى الى عالم اللاوعى. بكل لذاته و ترهاته. يسير بأنفاس لاهثة. ككهل فى السبعين من عمره. رغم وجهه الذى ينبض بالحياة. يشعر بشيخوخة أحاسيسه وكهولة قلبه مع أنه فى بداية مرحلة الشباب. مرحلة العنفوان. مرحلة الآمال و التطلعات. يخطو بخطى متثاقلة. يبحث فى العيون المتقرحة الحزينة عن نقطة نور. عن أمل يتراءى له من بعيد. عن نور يضىء العتمة. و يزيح السواد عن قلبه الممزق. أنا مجرد شاب ممزق مهلهل. لا أمل. لا عمل. لا طموحات. لا شعور. ترسخت لديه أسباب العداء و الكره وعدم المغفرة. يريد الصراخ. يريد أن يسمع البشرية أناته و أوجاعه. يريد أن يتمتع بمباهج الحياة و مغرياتها التى تزيد يوما بعد الآخر. لكن لا يعرف. يفكر كيف أن الانسان لا يكف عن المعاناة أو التفكير فى مأساته الدنيوية. يشعر أنه آثم لمجرد التفكير فى متع الحياة. و لكن ما السبيل الى الخلاص؟ يتذكر آية ظل يرددها فى داخله بقوة :" لقد خلقنا الأنسان فى كبد". نعم. حياتى بلا راحة و بلا متعة. حياتى كروب متراكمة. أكوام من الأحزان تتراص فوق بعضها البعض حتى تكاد تخنقنى. أصبح جسدى بال و أنا الشاب. أشعر بحالة من الضياع. أفتقد الشعور بالأمان. أبحث عن هويتى فأزداد يأسا و اغترابا. أبحث عن حقى فى حياة سوية فلا أجد. أبحث عن حب ينتشلنى من بئر الأحزان العميقة فأصاب بخيبة أمل و احباط. كل ما أصبو اليه لا يتحقق. تركت الحياة و اعتزلت و انكفأت على ذاتى و تقوقعت و لم أفلح. خرجت الى الحياة لأكون عربيدا آثما و لم أفلح. أشعر بنار تأكل صدرى. نار الصراع المحتدم بداخلى. خمد لدى الابداع. و تلاشت الأفكار و صرعت الآمال
يا دفتر الأرقام ما ثمنى؟
أنا مثل التراب بلا ثمن
لا شىء بالمجان غير الموت
لكن
لامفر من الكفن
لم أعد أفكر بشىء غير الانتحار. لكن. حتى حرية الموت لا أملك لها اختيار. تناسيت احتياج جسدى و روحى. تناسيت آدميتى كى اتمكن من العيش. نضب لدى الإبداع و فرغت القدرات. فما أنا الآن؟ أأنا من بنى الانسان؟ أم أنا من الهوام؟ أنا حتى لا أساوى التراب. فقدت حضن الأهل. حتى الوطن لم ينصفنى. فبت غريبا و حيدا. أنا مجرد شاب ممزق. أنا من تفنن الوطن فى صناعة آلامه. أنا من حطم الوطن أحلامى. يعيش كالمغيب فلا رأى له ولا قرار. لا يملك حتى تقرير مصيره. فكيف أطالب بكل هذا و أنا لا أملك حتى الكفاف؟
أصبو إلى وطن تتحقق فيه أحلامى. أما الآن فهى مجرد أحلام مبتورة. قضت عليها كتائب الأحزان و الهم قبل أن ترى النور. أحلامى بلا أجنحة. أشتاق إلى انسانيتى . أنطلب الكثير؟ أم أننا فى هذا الوطن الممزق تعودنا على القليل و رضينا بالفتات؟ أريد ألا تنتهك آدميتى. أريد أن انعم بالأمان. أخشى دوما على كرامتى. أريد أن احظى بأرادتى. لا يشعر بقيمة النفس. فنفسه ظلام. يتمزق فى اليوم مائة مرة. أسأل نفسى: كيف أحقق طموحاتى وأحلامى و أنا مكبل مقيد؟ ما الجرم الذى ارتكبته لألقى مصيرا كهذا؟ أندفع ثمن الصمت و السكوت؟ جسدى موات. أمن المعقول أن نحيا الحياة هكذا؟ أنرضى بحظنا ؟ أم نخوض المعركة التى لا مناص من خوضها؟ أم أن الناس من هول الحياة موتى
على قيد الحياة*. لكنى مللت الأنتظار. فارفعوا الستار و ابدأوا حوار الحرية كى تتمكنوا من النوم ليلا دون عناء دون وخز ضمير
يا دجى.. يا صمت .. يا جنون
أنكون يا ترى أم لا نكون؟
يا سؤالا حائرا منذ قرون
هائما ليس يقر
عندما أنزل الى الشارع. أخاف من كل شىء و من أى شىء. أشعر أنى مراقب. فلا تركتنى عيون ولا صمت عن آذان و لا أشيحت عنى وجوه. أشعر أن الخطر قادم نحوى. أبدأ بتحضير الوجوه التى سأركبها واحدا تلو الآخر. أحيانا أنسى من أنا. أفزع من مجرد التفكير فى هذا. لكن أتسأل: من أنا حقا؟ سؤال ظلت البشرية جمعاء تسأله و تنتظر الرد عليه و ما من مجيب. أكون أو لا أكون؟ سؤال عائم لزج لا تستطيع الامساك به أو التغلب عليه. أشعر بغصة و مرارة مذ أدركت ما حولى. صغير. كبير. رجل . امرأة. كهل. محترم. عاهرة. ماجن. ذو دين. منحل. كل مهان فى هذا الوطن. أشعر أحيانا بحرارة الموت. تظل ترتفع و ترتفع حتى أشعر بأنها ستفتك بى. عندى شعور حاد بالوحدة و التخبط. أبحث عن قدوة فلا أجد. يسيطر على التشاؤم و السلبية. من يقول لى كيف أتخلص منهما؟ أريد التنصل من وطنى و أهلى و لا أعرف. أعرف بأنى لا أعرف. وعدم معرفتى سبب شقائى. و معرفتى أيضا سبب شقائى. فكيف السبيل اذا الى الراحة؟
أنا بصقة قبر
أنا خفاش عجوز
يكره الضوء كما تكره أنت الظلمات
أيها الضارب فى التيه بليل
كيف فى التيه المفر؟
يا صديقى.. خذ طريقى.. و انتحر
أرى أناس صكت على وجوههم علامات الذل و الخنوع. فأخشى أن يكون مصيرى هكذا. ما العمل اذا؟ أهرب؟ أم أنتحر؟ و ماذا سيكون مصيرى بعد ذلك؟ راحة و هناء؟ أم شقاء و عذاب؟ حتما سأفقد كل شىء. منذ زمن كفرت بالعروبة و القومية. كفرت بالشعارات. أشياء تربينا عليها و تنصل منها الآباء بعد ذلك. أنا حتى لا أعرف النظم السياسية و الديكتاتوريات. فكيف لى أن اطالب بالديموقراطية. أنا أعرف أنى لا أعرف شيئا على الاطلاق.لم يبق لى شىء. أخاف ألا أكون على الدرب الصحيح
اذا من أنا؟ شاب شاخ قبل الاوان. لا يجد الراحة. لا يجد الحب. يبحث عن الامان و تحقيق الاحلام. مهان. خاضع. خانع. ذليل. فقد الثقة بالنفس منذ زمن. الجميع يفقدوه العزيمة و القوة. حرفة امتهنتها جموع الشعب منذ فترة طويلة. متخبط. لا يشعر بالانتماء و يهزأ من كلمات النشيد الوطنى. بلادى لك حبى و فؤادى. كيف أعطيكى اياهم و أنا حتى لا أملكهم؟ فقد الهوية. كفر بالعروبة و القومية. لا يملك شيئا من حطام الحياة
فما الذى تعطى لنا؟
ماذا تبقى عندكم؟
لم يبق شىء
فاهنأوا.. طوبى لكم
الأشعار هنا للعظيم نجيب سرور و الجملة المشار اليها بنجمة هى أيضا سطر من سطوره. أرجو أن تكون حظيت أخيرا بالحرية أيها الفارس النبيل

ليست هناك تعليقات: