الثلاثاء

سارق الحياة

-أ-
تقبع فى ركن بعيد. تفكر فيما آلت اليه الأمور. خمس و عشرون عاما قضتها وحيدة بين جدران أربع. ترجع بذاكرتها يوم بلغت. شعرت بخوف شديد من مجرد التذكر.لم تكن أبدا سعيدة ببلوغ مبلغ الكبار. فجأة تعاملوا معها على أنها امرأة. ودت لو تبقى طفلة إلى الأبد. فهى منذ ذلك اليوم تعيش حياة الرهبان الجبرية. تعودت على صمت الجدران. ماتت أمها منذ ولدتها. لم تتعرف عليها الا من خلال الصور. تشعر أنها تريد التحدث معها. تسمع موسيقى روحها التى تئن. فلقد مضت سنون و هى تنتظر أن يفك القيد. لكن ما من فائدة. تود لو تكسر القيود و الأغلال. لكنها تخشى العصا و تخاف العقاب. مذ كبرت تغيرت معاملة والدها لها. باتت تخاف منه كثيرا. أصبح عصبى المزاج هائج طوال الوقت. أغلق نوافذ حجرتها حتى لا يراها الناس. أصبح يتعامل معها كأنها عار. و هى التى لم تقترف ذنبا بعد. أول الأمر كانت تعاتبه. فيشيح وجهه عنها. يتمتم بكلمات لا تفهمها. ينهى المناقشة قبل أن تبدأ. تسأل نفسها ما الأثم الذى اقترفته. تبحث عن اجابة فى طيات نفسها فلا تجد شيئا على الاطلاق. مجرد طريق مظلم مفروش بالأوجاع. تهمة الأنوثة تلاحقها فى عالم لا يعترف الا بالذكورة. تشعر بأنها عصفور محبوس مكبل. وهل يتحمل العصفور العيش وراء القضبان؟
-ب-
تستمر القسوة بل تزداد يوما بعد يوم. تألف الألم و الشعور بالقهر. تود لو يضمها بقوة و يقول لها أحبك يا ابنتى الغالية. تتذكر يوم نجحت فى الثانوية العامة بمجموع كبير. كانت الفرحة تغمرها. ودت لو تطير الى البيت. و عندما رأت وجهه العابس الصارم و قسماته التى تدل على الامبالاة دب الخوف داخلها. عقد لسانها. أخبرته وكأنه لم يسمع. لاقى الخبر ببرود لم يكن غريبا عليها. عيناها تحجرتا من كثرة البكاء. حتى البكاء أصبح مستحيلا. ما الجدوى من الحياة مع أب كهذا. وعندما دخلت الجامعة بدأ الاضطراب يزيد. فهم يعيشون فوق صفيح ساخن. توتر قلق غضب. وصل البيت الى ذروة الغليان. يبدأ النهار بالتعليمات و ينتهى بالتحقيق. ماذا أخذت فى المحاضرات. ماذا أكلت. و الأهم مع من تحدثت. و دت لوتقول له أنها تتمنى رضاه. وأنها لن تفعل شىء يشعره بالعار أو بالمهانة. و لكنها ركبت قناع التحدى و العناد. تتمنى أحيانا أن يموت أو ان يقضى عليه مرض ما. و لكنها تشعر بأنها أفكار آثمة. فتتراجع. و تسلم فى نهاية الأمر بأنها نوع من القيود اللذيذة. فهو يخشى عليها من الناس و على الأخص الشباب. ترى فى عينيه نوع من الحسرة. سمعته مرات عدة وهو يقول أنه كان يتمنى ان ينجب ولد. ليحظى براحة البال. تفاجأت و تضايقت فى بادىء الأمر. لكن بعد حين تساوى لديها كل شىء. أصبح كل شىء يشوبه السواد. فقد جفت عواطفها منذ فترة.عندما سمعت كلمة الحرية لأول مرة. سألت أبيها : ما هى الحرية و كيف ينعم بها الفرد؟ و ما هو الاستقلال؟ هجم عليها و أحست أنه سيثب عليها كالفهد ينهش لحمها و يقطعها أشلاء. قال لها: من أوحى لك بهذة الأفكار؟ ترددت وقالت له بعد فترة وجيزة بشىء من الهلع و الرعب: قرأت عنها فى الكتب و المجلات. سمعته يغمغم : تعسا لمن يريد تعليم فتاة. تشتاق الى أمها. ترى طيفها عندما تتألم أو تشعر بأن نهاية الحياة قد قربت. تستحضر روحها و تلومها. ودت لو تذهب اليها و تبقى الى جوارها. يقطب و يقول لها فى حزم: الحرية للرجال فقط. لتبقى نسمات الحرية بالنسبة لها حبيسة الكتب و المجلات. أهذا حال كل الفتيات أم انا فقط؟
-ج-
بعد التخرج. تصبح الأيام حافلة بطموحات منها العظيم و منها التافه. جاءت لها خاطرة كانت تتهرب منها طوال حياتها. لم تتعرف قط على شاب. لم تبادل أيا منهم حتى مجرد النظرات. ظلت تتسآل من هو فتى أحلامها. لم تجد اجابة كالمعتاد. فهى تخشى الرجال. تتمنى زوال عقلها ووعيها و تلاشى الأحساس المرير بالزمن. كانت تراقب الفتيات من أصدقائها يتبرجن و يتجملن من أجل الشباب. كانت تارة تحسدهم و تارة تنعتهم بالتفاهة و ضيق العقل و الأفق. استمرت القسوة و البرود. و تلونت حياتهما بلون رمادى كئيب. لم تعد تطيق نفسها. تمنت الموت. حدثته بأنها تريد أن تعمل. تجاهلها. ثم نهرها بشدة عندما أحس بأصرار من ناحيتها. لن تعملى كفانا شقاء. انتهت المناقشة. أريد أن أرى الحياة و أتعرف على الناس قالت بوهن مشوب بأصرار. حدثته فى الأمر عدة شهور. وافق على مضض. زاد القلق و التوتر. يا ليتها كانت ذكر. تتذكر أمها. تناديها بأعلى صوت. صوت مليىء بالأنات و الأهات. تتعب من كثرة النداء . فلا مجيب و لا معين. شعرت بأن شخصا ما يحاول ان يتقرب منها. حاول معها جاهدا دون جدوى. لقد ماتت المشاعر وقتلت الأحاسيس. تعب من الجرى ورائها. تقدم لخطبتها. رفض الوالد. كرر المحاولة لكن دون جدوى. اتهمها بأنها تمشى على حل شعرها. أرغمها على الجلوس فى المنزل وترك العمل. حدثت نفسها بالأنتحار. ترددت بعض الأبيات فى ذهنها: حتى حرية الموت لا نملك لها اختيار. فكيف الخلاص؟
-د-
فجأة يسمع صوت صراخ. تفجرت مشاعر الفتاة. ظلت تصرخ بهستيريا فى والدها. بدأت المعركة الشعواء. ظلت تتكلم دون وعى كمن أسكرته الآلام. تعنف و تسب و تلعن. أمسكت برقبته و قررت انهاء حياته. هزت جسده بعنف. و أخذت تخنقه بكل ما اوتيت من قوة و الذكريات تندفع كحمم بركان خامد منذ فترةطويلة. ولكن ما الفائدة. فقد فارقت الروح جسد والدها منذ عدة أيام. موضوع على السرير وهى تراقبه و لا تصدق انه مات. تتكلم مع ميت منذ عدة أيام. و ما الفارق؟ فهو ميت بالنسبة لها حتى قبل أن يفارق الحياة. لما واتتها الشجاعة بعد موته؟ لما لم تقاوم؟ لما لم تحاول الحصول على حريتها و خاصة حرية الاختيار؟ تركت جسده مسجى على السرير. وظل السكون سيد الموقف بعد حياة مليئة بالحراك. و عندما فتحت لها الحياة أبوابها. توجست و خافت. حبيسة كانت وحرة الآن. لا تعرف كيف تحصل عليها او تستمتع بعدم وجوده . فقررت أن تظل حبيسة الجدران الأربع مع والدها الميت

ليست هناك تعليقات: