الثلاثاء

الموت للفقراء والحياة للأغنياء

ضيع المسئولون صحة الشعب المصري وأمرضوه بأغذية "مسرطنة" مستوردة من إسرائيل، والآن يحرمونه من حقه في العلاج شبه المجاني، ويخصخصون "هيئة التأمين الصحي"، وكأن شعار الحكم:الموت للفقراء والحياة للأغنياء. ولا من ضمير يشعر بالذنب تجاه الفقراء، ويتحرك يحاسب المسئولين عن الأولى ولا الثانية. ومن نعم الله على الشعب المصري أنه قانع، وكل متطلباته في الحياة تتلخص في "الستر"، والستر لديه معيشة بالكاد؛ جنيهات قليلة تقيه ذل الحاجة، يدخر منها كفنا للموت، ويشتري منها كسرة خبز يسد بها رمق الحياة، هل رأيتم أبسط من هذه مطالب يا أولي الأمر!
و في تبسيط لمن يهمه الأمر: الأمة الضعيفة المنهكة صحيا لا تقدر على التنمية، ولا على الدفاع عن حدود الوطن، ولا حتى عن حماية النظام الحاكم، فهي أشباح كهياكل القش، تثير الُفزع والشفقة، ولا تبعث على الرعب والرهبة والهيبة في قلوب الأعداء، ويسهل غزو الدولة واحتلالها. الرعاية الصحية أولى اللبنات في بناء الدولة القوية، ومن يطالب بالخصخصة، ويدعو لتحمل المواطن عبء التكاليف أسوة بالدول المتقدمة عليه أن يعطي الشعب ما تكفله الدول المتقدمة لشعوبها من احترام حقوق الإنسان، وضمان الحريات السياسية، وتوفير فرص عمل، ورفع مستوى المعيشة بشكل يمكن المواطن من دفع نفقات العلاج والتعليم والترفيه، وكيف يدفع شعب نفقات علاجه وتعليم أبنائه وراتبه الشهري لا يكفيه أسبوعا!
أعترف أن الباعث على الكتابة هو ما يثار عن إقرار قانون " ينظم نقل وزراعة الأعضاء البشرية"، وليس قضية خصخصة التأمين الصحي، فحكومتنا عنيدة ولا تتراجع عن قرار اتخذته يضر بمصالح الفقراء، باعت القطاع العام بأبخس الأثمان، وحولت المواطنين إلى عجزة متسولين، وقلة قليلة جدا إلى محسنين (رجال المال)، إن كانت الحكومة مأمورة في بيع ما يخصها، فليس لها الحق في إقرار ما لايخصها.
أصوات كثيرة تتعالى هذه الأيام تطالب بإقرار قانون يبيح نقل الأعضاء البشرية وزراعتها تحت شعار "الحي أبقى من الميت"، وإذا كنا نحن الفقراء أُرغمنا وقبلنا أن نكون الأحياء الأموات فوق الأرض، فإننا نرفض أن نكون قطع غيار للأغنياء، والرفض له مبررات يرتكز عليها؛ أننا الشعب المصري بطبيعته كريم ويتبرع عن طيب خاطر لمن يحتاج، وأنه ليس بحاجة إلى قانون ينظم عملية نقل وزرع الأعضاء البشرية، ولكنه بحاجة إلى ضمير يعرف أمانة المسئولية قبل حدود القانون، وبحاجة إلى تفعيل ممارسة الطب الوقائي للحد من انتشار الأمراض الخطيرة المعدية، وهذا يستلزم تطوير الخدمات الصحية، وتوسيع مظلة التأمين الصحي لتشمل كافة المواطنين، والابتعاد عن خصخصة التأمين الصحي في بلد غالبيته فقراء (للأسف يخصخص التأمين الصحي الآن).
تقنين تنظيم زراعة الأعضاء البشرية يفتح الباب واسعا أمام تجارة وبيع الأعضاء البشرية –تحت غطاء قانوني- لفقراء لا يملكون قوت يومهم، ومنهم –كما قرأنا وسمعنا- من باع أطفاله، ومن باع أعضاءه البشرية اتقاء مغبة الفقر. وفي ظل تخلى الدولة عن دورها، وتدني الأجور وغياب مظلة الضمان الاجتماعي، يمكن أن تتحول مصر إلى سوق لتجارة الأعضاء البشرية. ويوجد في مصر الآن أكثر من 2 مليون مواطن يحتاج إلى عمليات زرع كبد حالا، فهل هذا القانون يتيح لجميعهم على قدم المساواة الحق في عمليات زرع أكباد؟ وهل لدينا مستشفيات جاهزة ومتخصصة لمثل هذه العمليات؟ أخشى في غياب المستشفيات المتخصصة أن يشيد رجال المال مستشفيات خاصة مجهزة لزراعة الأعضاء، وقد يصحبها استقدام خبرات أجنبية طبية لزوم إجراء العمليات ذات التقنية العالية، وتصبح جمهورية مصر العربية أكبر مورد للأعضاء البشرية في الشرق الأوسط، والقاهرة مقرا لمستشفيات زراعة الأعضاء للقادرين من الداخل، والخارج بزعم الاستثمار وجلب العملة الصعبة للدولة، نفس المنطق الذي روج لإنشاء الجامعات الخاصة، واستقطاب الطلاب القادرين من المصريين، والعرب لتوفير العملة الصعبة للدولة، وبالطبع يُحرم المريض الفقير من حقه في زراعة ما يحتاجه من أعضاء، كما يحُرم الفقير الحاصل على 95% من الالتحاق بكلية الطب الحكومية، ويلتحق الثري بكلية الطب الخاصة بمجموع متدن.
على مدى عقود لم نر أو نسمع عن تشريع قانوني أو دستوري لصالح المواطن البسيط، ولم نسمع عن عملية زرع كبد واحدة أجريت لفقير في مستشفيات مصر، أو علاج لفقير على نفقة الدولة في الخارج، كل ما يحدث لصالح فئة معينة، بدءا من الخصخصة وبيع القطاع العام إلى التعديل الدستوري.
قبل إقرار قانون ينظم عملية نقل وزراعة الأعضاء البشرية، يجب إقرار حق المواطن في الحصول على علاج مجاني من أمراض ساهم النظام في وجودها بتهاونه مع المستوردين. ومعلوم أن الرأسمالية الغربية التي يحاول النظام تقليدها تضمن حقوق المواطن الغربي في الحرية والديمقراطية والتأمين الصحي والحياة الكريمة على قدم المساواة مع الأغنياء. وفي زيادة التضخم، وزيادة معدل الفقر، وانعدام الحرية والشفافية، ووجود المادة 179 الدستورية لا داعي –في الوقت الحالي- لإصدار قانون ينظم عملية نقل وزراعة الأعضاء البشرية، لأنه يقننها لصالح مجموعة ثرية، وأخرى منعدمة الضمير تتاجر فيها مستغلة حاجة الفقراء، وتعتدي على حرمة الأموات واقتطاع أعضائها وبيعها لمن يدفع الثمن. أي تشريع لا يخدم الجميع لا لزوم له.

د. يحيى القزاز

نشر هذا المقال في جريدة الأسبوع (القاهرية)7/5/2007

ليست هناك تعليقات: